الهندوسيَّة هي ديانة هنديَّة قديمة، ولا تُنسب إلى شخص بعينه بل هي مزيج من شعائر الهنود الأُصَلاء، وشعائر القبائل الآرية التي أغارت على الهند قبل الميلاد بعدَّة قرون، وقد كانت هذه القبائل الآريَّة تُقيم على البقاع الوسطى بين الهند ووادي النهرين، فاتجهت طائفة منها غربًا إلى أوربا، واتجهت منها شرقًا إلى الأقاليم الهنديَّة من شمالها إلى جنوبها.
وقد اشتملت الديانة الهندية القديمة على أنواع شتَّى من الآلهة، ففيها آلهة تمثِّل قوى الطبيعة وتُنسب إليها؛ كإله المطر، وإله النار، وإله النور والريح . والهندوسية -ويُطلق عليها أيضًا البراهمية- هي ديانة وثنية يعتنقها معظم أهل الهند، وهي مجموعة العقائد والعادات والتقاليد التي تشكَّلت عبر مسيرة طويلة من القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى الوقت الحاضر، فهي ديانة تضمُّ القيم الرُّوحيَّة والخُلُقِيَّة إلى جانب المبادئ القانونيَّة والتنظيميَّة متَّخذة عدَّة آلهة بحسب الأعمال المتعلِّقة بها.
معتقدات الهندوسية وفرقها
وقد بيَّن الشهرستاني أنَّ الهندوس "البراهمة" تفرَّقوا أصنافًا؛ فمنهم أصحاب البددة، ومنهم أصحاب الفكرة، ومنهم أصحاب التناسخ:
1- أصحاب البدَدَة: و"البَدُّ " عندهم هو الشخص الذي لا يُولد، ولا ينكح، ولا يطعم، ولا يشرب، ولا يهرم، ولا يموت... وأوَّل "بدٍّ" ظهر في هذا العالم هو "شاكمي" أو "شاكيموني"، أي السيَّد الشريف، ودون مرتبة البد مرتبة "البوديسعية" أو "البردسعية"، وهو الإنسان الطالب سبيل الحقِّ، وإنما يصل إلى تلك المرتبة بالصبر والعطية، ومحاسن الأخلاق. وقد زعموا أن هؤلاء البَدَّة أتوهم على نهر الكنك، وأعطوهم العلوم، وظهروا لهم في أجناس وأشخاص شتَّى، ولم يكونوا يظهرون إلاَّ في بيوت الملوك.
2- أصحاب الفكرة والوهم: وهؤلاء أعلم من سابقيهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم، وهم الذين يُعظِّمون الفكر، وهو المتوسط عندهم بين العالَم المحسوس والمعقول، وهو بالتجرُّد عن هذا العالَم، ربما يُوصل أحدهم إلى الإخبار عن مغيبات الأحوال، وربما يقوى على حبس الأمطار وغيرها...! والوهم إذا تجرّد عَمِل أعمالاً عجيبة -على قولهم- فكان إذا أصابهم أمرٌ جمعوا له أربعين من رجالهم المهذَّبِين المخلصين المتَّفِقِين على رأي واحد في الإصابة، فيجتمعون على رفع الغمَّة، فيندفع عنهم البلاء الملم بهم!
3- أصحاب التناسخ: وفكرة التناسخ هي فكرة قديمة موغلة في كثير من العقائد، ومنها الهندوسيَّة، التي يؤمن كثير من أتباعها بهذه العقيدة، وهم يقولون: إذا كانت حركات الأفلاك دورية فلا محالة يصل رأس الفرجار إلى ما بدأ ودار دورة ثانية على الخط الأول أفاد -لا محالة- ما أفاد الدور الأول؛ إذ لا اختلاف بين الدورين حتى يتصوَّر اختلاف بين الأثرين . فهذا التناسخ الذي يساوي بين مراتب الوجود الإنساني والحيواني كأنهما نسيج واحد، وسبيكة مختلطة العناصر، أدَّى إلى افتقادهم الرُّوح المميِّزة للإنسان دون غيره من سائر المخلوفات، وإنكار البعث والحساب والعقاب في اليوم الآخر .
فعقيدة التناسخ -أو تكرار الولادة والوفاة أو تجوال الرُّوح- على أساس فكرة العقاب للذين لم يستطيعوا أن يندمجوا في (الكلِّ) الذي هو الإله في العقيدة البراهمية؛ لارتباطها بتصوُّر أن الوجود واحد، فإذا ما مات الإنسان الشرير لا تنتقل روحه إلى إنسان آخر، بل يجوز أن تحلَّ في كلب أو شجرة، وما يزال تَكرار الوفاة فالولادة إلى أبد الآبدين، إذا لم تستطع أن تتجرد من الشهوات تجرُّدًا تامًّا يصعد بها إلى حيث يمكنها الاتحاد مع الكل، فإذا استطاعت الرُّوح التخلُّص من إسار الشرِّ، فإنها ستندمج في الكلِّ لتنعم بالاتحاد معه، وبهذا الاتحاد تنجو من العذاب الذي يتجلَّى في الولادة الجديدة المتكرِّرة .
لذا تعزَّزتْ في الهند عبادة "الطواطم" وهي العقيدة التي تنادي بوَحدة الوجود وتناسخ الأرواح، ثم تعزَّزَتْ بعقيدة الحلول؛ فعبدوا الحيوان على اعتباره جَدًّا حقيقيًّا أو رمزيًّا للأُسْرَة ثم للقبيلة، ثم تخلَّفت عبادة الحيوان حتى آمنوا بأنَّ الله يتجلَّى في كلِّ موجود، أو يخُصَّ بعضَ الأحبَّاء بالحلول فيه، وآمنوا بتناسخ الأرواح؛ لذلك فهم يؤمنون بكون الحيوان جَدًّا قديمًا، أو صديقًا عائدًا إلى الحياة في محنة التكفير والتطهير، فعاشت عندهم الطوطمية في أرقى العصور، كما عاشت في عصور الهمجيَّة لهذا الامتزاج بين الاعتقاد الحديث والاعتقاد القديم. وقد خلصوا كما خلص غيرهم من هذه العبادات إلى الإيمان بالإله الواحد، وإن اختلفوا في المنهج الذي سلكوه، فلم يكن إيمانهم به على الأساس الذي قام عليه إيمان الشعوب الأخرى بالتوحيد .
وكذلك اشتملت الهندوسيَّة على مجموعة من النظم العقائديَّة الأخرى منها الكارما: "قانون الجزاء"، أي أنَّ نظام الكون إلهي قائم على العدل المحض، هذا العدل الذي سيقع لا محالة، إمَّا في الحياة الحاضرة أو في الحياة القادمة، وجزاءُ حياةٍ يكون في حياة أخرى، والأرض هي دار الابتلاء كما أنها دار الجزاء والثواب. ومنها أيضًا الانطـلاق الذي يعني أن صالح الأعمال وفاسدها ينتج عنه حياة جديدة متكرِّرة لتثاب فيها الرُّوح أو لتُعاقَب على حسب ما قدَّمت في الدورة الحياتيَّة السابقة.
وممَّا لا ريب فيه أن هؤلاء البراهمة ومَن تأثر بهم فقدوا كل حاسة أو نعمة إدراكيَّة قد أُعْطُوها؛ إذ كيف تتصوَّر عقولهم وأسماعهم وأبصارهم أن عبادة بقر -لا يملك لنفسه منفعة ولا مضرَّة- هي العبادة الصحيحة، فمن البدهي أنْ يَصِلَ الإنسانُ إلى خالقه عن طريق الإجابة على الأسئلة الكبرى المكوِّنة للعقيدة الصحيحة، وهي: مَنِ الخالق؟ وما حقيقة هذا الوجود؟ وغيرها من الأسئلة الأخرى، فهل من المعقول أن السبب الرئيسي لكل هذه المسبّبات المحيطة بنا ترجع إلى تلك البقرة المقدسة!!
لقد علَّق ابن الجوزي على فعلهم بقوله: "وقد كان قوم يعبدون الخيل والبقر وإن هؤلاء لأخسُّ من إبليس، فإن إبليس أنِفَ لادعائه الكمال أن يسجد لناقص، فقال: {أنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، وفرعون أنف أن يعبد شيئًا أصلاً" .
كتب الهندوسية :
ولهذه الديانة عدد هائل من الكتب، والتي يصعب في كثير من الأحيان فهمها؛ لغرابة لغتها. وقد أُلِّفَتْ كتب كثيرة لشرحها، وكتبٌ أخرى لاختصار تلك الشروح، وكلُّها كتب مقدَّسة، ومن أهمِّها:
1- الفيدا: وهي كلمة سنسكريتيَّة معناها الحكمة والمعرفة، وهي تصوِّر حياة الآريين، ومدارج الارتقاء للحياة العقليَّة من السذاجة إلى الشعور الفلسفي، وتتألَّف من أربعة كتب: "رج فيدا" أي الفيدا الملكية، وهي قديمة تعود إلى 3000 سنة قبل الميلاد، فيها ذِكْر لآلهة متعددة. و"بجور فيدا": وهي التي يتلوها الرهبان عند تقديم القرابين، ثم سم فيدا (Sama veda)، وهي التي ينشدون أناشيده أثناء إقامة الصلوات والأدعية. و"أثروا فيدا": وهو عبارة عن مقالات من الرُّقَى والتمائم لدفع السحر والتوهُّم والخرافة والأساطير والشياطين. وكل واحدة من هذه الفيدات يشتمل على أربعة أجزاء.
2- قوانين منو: وُضِعَتْ هذه القوانين في القرن الثالث قبل الميلاد، في العصر الويدي الثاني -عصر انتصار الهندوسيَّة على الإلحاد الذي تمثَّل في البوذيَّة والجينية- وهذه القوانين عبارة عن شرح للويدات بين معالم الهندوسيَّة ومبادئها وأسسها.
3- كتب أخرى: (مها بهارتا) وهي ملحمة هندية تشبه الإلياذة والأوديسة عند اليونان، و(كيتا) وهي التي تصف حربًا بين أمراء من أسرة ملكية واحدة، ويُنسب إلى كرشنا، وفيها نظرات فلسفيَّة واجتماعيَّة .
النظام الاجتماعي في الهندوسية :
ترتَّب على البراهمية (الهندوسية) نظام اجتماعي قاسٍ، قد يكون من الأنظمة التاريخيَّة القديمة التي قامت على أعقابها الثورات التحرُّريَّة القائمة على مبدأ محاربة النظام الطبقي، كالاشتراكيَّة والشيوعيَّة في العصر الحديث. فمنذ وصول الآريين إلى الهند نراهم قد شكَّلوا طبقات اجتماعيَّة صارمة، لا تزال موجودة في الهند حتى الآن، وهم يعتقدون أنه لا طريق ولا وسيلة مناسبة لإزالتها؛ لأنها تقسيمات أبديَّة مِن خلق الله تعالى، وهذه الطبقات جاءت في "قوانين منو" على النحو التالي:
1- البراهمة: وهم الذين خلقهم الإله "براهما" من فمه، فمنهم المعلِّم والكاهن والقاضي، ولهذه الطبقة تلجأ بقيَّة الطبقات الأدنى في حالات الزواج والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين إلاَّ في حضرتهم.
2- الكاشتر: وهم الطبقة الثانية، وهم يعتقدون أن الإله خلقهم من ذراعيه، حيث يتعلَّمون ويقدّمون القرابين، ويحملون السلاح للدفاع.
3- الويش: وهم الذين خلقهم الإله من فخذه، يزرعون ويتاجرون ويجمعون المال، وينفقون على المعاهد الدينيَّة.
4- الشودر: وهم الذين خلقهم الإله من رجليه، وهم -مع الزنوج الأصليين- يشكِّلون طبقة المنبوذين، وعَمَلُهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاثة السابقة الشريفة، ويمتهنون المهن الحقيرة، وهذه الطائفة -بحسب قوانين منو- أحطُّ من البهائم، وأذلُّ من الكلاب .
تطور الهندوسية :
صَاحَبَ هذا الانحطاط الاجتماعي تطوُّر العقيدة الهندوسيَّة، وانحدارها من التوحيد إلى الشرك، ومرَّ ذلك بثلاثة أدوار رئيسية:
الأول: دور التوحيد عند الهنود القدماء، وربما الذين انحدروا من الأصل السامي، نسبة إلى سام بن نوح.
الثاني: دور الكهنة البراهمة، ونشأة الثالوث الهندي (برهما، فشنو، سيفا).
الثالث: دور الشرك والوثنية، حيث اتَّسع نفوذ الكهنة فأنشئوا الامتيازات والاختصاصات ووضعوا نظام الطبقات، وزعموا أنهم المتفرِّدون بمعرفة الحقائق، وهو ما أدَّى إلى ستر الحقائق عن الشعب، فنتج عن ذلك الجنوح إلى الشرك وتعدُّد الآلهة، ثم الانحدار إلى عبادة الأشخاص والتماثيل والحيوانات، بل إن الأمر تطوَّر عندهم إلى إنكار النبوَّات، وهي المزاعم التي جاء بها "برهما" الذي إليه ينتسبون، وتتلخص في:
1- أن العقل دلَّ على أن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يتعبَّده الخلق إلاَّ بما تدلُّ عليه عقولهم، فننظر في آيات خلقه بعقولنا، ونشكره بآلائه علينا، وإذا عرفه الإنسان وشكره، استوجب ذلك ثوابه، وإذا أنكره الإنسان وكفر به، استوجب عقابه؛ فلأي سبب يمكن أن نتَّبع بشرًا مثلنا، يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب .
2- أن الذي يأتي به الرسول لم يخلُ من أحد أمرين: إمَّا أن يكون معقولاً، وإمَّا أنْ لا يكون معقولاً، فإن كان معقولاً فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فلا حاجة إلى رسول، وإن لم يكن معقولاً فلا يكون مقبولا .
تعظيم الهندوسية للبقرة :
قد يدور في خلد إنسان التعجُّب من الاحترام والتوقير الذي تتعامل به البقرة المقدَّسة في المجتمع الهندي، على خلاف فئة المنبوذين من البشر، والتي هي أقلُّ طبقات المجتمع الهندي احترامًا وتوقيرًا، وهي أقلُّ من الكلاب والبهائم في هذا المجتمع أيضًا، ثم يتعجَّب متهكِّمًا من المعاملة القاسيَّة من هؤلاء الهنود للثور الذي هو ابن هذه البقرة، أو أبوها، أو حفيدها!!
ولا يكاد القارئ لهذه العقيدة يبرح المجتمع الهندي الذي بلغ من هُيامه للبقرة مبلغًا لم يسبقه إليه مجتمعًا آخر؛ إلاَّ ويجد غاندي -هذا المصلح الهندي الذي ذاع صيته- مخاطبًا البقرة ومناديًا إيَّاها باسم (أمي البقرة)، ويوضِّح أسباب هذه العاطفة الجيَّاشة بينه وبين (أمِّه البقرة) بقوله: "إن حماية البقرة التي فرضتها الهندوسيَّة هي هدية الهند للعالم، وهي إحساسٌ برباط الأخوَّة بين الإنسان وبين الحيوان، والفكر الهندي يعتقد أنَّ البقرة أمٌّ للإنسان، وهي كذلك في الحقيقة، إن البقرة خير رفيق للمواطن الهندي، وهي خير حماية للهند، فعندما أرى البقرة لا أعدُّني أرى حيوانًا؛ لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع، وأمِّي البقرة تَفْضُل أمِّي الحقيقيَّة من عدَّة وجوهٍ؛ فالأمُّ الحقيقية ترضعنا مدَّة عام أو عامين، وتتطلَّب منَّا خدمات طُول العمر نظير هذا، ولكن أمَّنا البقرة تمنحنا اللبن دائمًا، ولا تتطلَّب منَّا شيئًا مقابل ذلك سوى الطعام العادي، وعندما تمرضُ الأمُّ الحقيقيَّة تكلِّفنا نفقات باهظة، ولكن عندما تمرض أمُّنا البقرة، فلا نخسر لها شيئًا ذا بال، وعندما تموت الأم الحقيقيَّة تتكلَّف جنازتها مبالغ طائلة، أما عندما تموت أمُّنَا البقرة، فإنها تعود علينا بالنفع كما كانت تفعل وهي حيَّة؛ لأننا ننتفع بكل جزء من جسمها حتى العظم والجلد والقرون، وأنا لا أقول هذا لأقلِّل من قيمة الأمِّ، ولكن لأُبَيِّنَ السبب الذي دعاني لعبادة البقرة، فملايينُ الهنودِ يتَّجِهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعدُّ نفسي واحدًا من هؤلاء الملايين!!" .
إنَّ الإنسان ليتعجَّب من عبادة هؤلاء لحيوان لا يضرُّ ولا ينفعُ إلاَّ بإذن الله تعالى، فهؤلاء - لا ريب- فقدوا عقل الهداية الذي به يسترشد الإنسان من كلِّ ضلال وحيرة، فهم يتكلَّمون عن البقرة، وكأنها كلُّ شيء في هذا الوجود، فهل هذه البقرة -التي لا تفعل شيئًا سوى أنها تأكل من تحت قدميها، وأنها تُلقي روثها وفضلاتها أيضًا بين قدميها- قادرة على إجابة المضطر، ودفع الأذى، وجلب الخير للإنسان؟!! هيهات!
كما أثَّرت الهندوسية بالسلب على كثير من المحيطين بها، فخرج بعض ناقصي العقل بدين جديد سموه السيخية، وهي في حقيقتها محاولة جادة للتوفيق بين فريقين أصيلين لهما مكانتهما وجذورهما التاريخيَّة والحضاريَّة في الهند -أي المسلمين والهندوس- لكنها لم تلبث أن انطوت على نفسها؛ إذ كيف يتمُّ الجمع بين أُناس يعبدون البقر ويُحَرِّمون أكلها، وبين أناس أُحِلَّ لهم شُرْبُ لبنها، والاستفادة من لحومها وشحومها!!
خرافات الهندوسية :
لقد ترتَّب على الديانة الهندوسيَّة أنها ملأت المجتمع بالخرافات، بل وصل الأمر أنها أثَّرت تأثيرًا خطيرًا في هبوط المستوى الاقتصادي لمعتنقيها؛ فبعض طبقاتها لا تعمل؛ لأن العمل لا يليق بمكانتها السامية كطبقة البراهمة، وطبقة الحكَّام والجنود، وبعض طبقاتها لا تعمل إلاَّ في خدمة السادة وتسهر على رفاهيتهم، على أن نظام الطبقات نفسه يُعاب على الهندوسيَّة؛ لتعطيله تكافؤ الفرص، وحرمانه كثيرًا من الناس حقوقهم في السبق والتفوُّق، ومن العادات الممقوتة أيضًا في الهندوسيَّة التبكير في الزواج، فقد كان الأطفال يُعقد لهم بالزواج وهم يحْبُون، وإذا مات الولد -وكثيرًا ما كان يحدث- ترمَّلت زوجته وأمضت حياتها أرملة حزينة عليه، وكثيرًا ما كانت الزوجة تُلقي بنفسها في النار لتَحْرِق نفسها بنفس النار التي أُشعلتْ ليُحرق بها جثمان زوجها الميت. وقد ألغى القانون الهندي كثيرًا من هذه العادات؛ لأنها تتناقض مع العقل والمنطق، وتقدُّم المجتمع !!
ومع أن بعض مفكري الهند أمثال رام موهان راي، وديباندرانات طاغور، وكيشاب كاندرسِن، وساراسفاتي، وغاندي، وغيرهم، قد تحلّقوا حول الهندوسيَّة، واستمسكوا بها كدين، لكنهم لم يهتمُّوا بمعرفة التناقضات التي امتلأت بها الهندوسيَّة، وقد أظهرت الهندوسيَّة في كلِّ وقت سهولة في قبول التسويات بين الوَحدانية وتعدُّد الآلهة، وبين وَحدة الوجود وبين وجود إله، وبين تأكيد العالم ونفيه، وكأنها ديانة متناقضة! ومن ثَمَّ فإن مفكري الهند -السابق ذكرهم- اهتمُّوا بنشر الهندوسيَّة أكثر من اهتمامهم بتسويغها تسويغًا حقيقيًّا، وقد أتى ميلهم إلى الاكتفاء بالتعايش السلمي معها بدلاً من الذهاب إلى أعماق المشاكل؛ فهم لا يجرُءون على مجابهة سلطة التقاليد. ومما سبق يمكن القول: إن الفكر الهندي الحديث لم يكتسب بعدُ استقلالَه تجاه التقاليد، ولم يُصبح بعدُ نقديًّا تجاه نفسه .
تأثر بعض المسلمين بالهندوسية :
وليت أمر الهندوسيَّة ظلَّ محصورًا في الهند، فقد تأثَّر بعضُ المسلمين بأفكارهم، فكان ذلك سببًا في انحرافهم عن المنهج الإسلامي الصحيح، لكنَّ العلماء المسلمين استطاعوا تفنيد كلَّ انحراف أُدْخِل إلى الإسلام وهو منه براءٌ كالاعتقاد بالتناسخ الذي فضحه العلماء، كالإمام ابن حزم الذي نبَّه على بطلانه، فقال: "افترق القائلون بتناسخ الأرواح على فرقتين: فذهبت الفرقة الأولى إلى أن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخرى، وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت، وهو قول أحمد بن حائط تلميذ النَّظَّام، وأحمد بن مانوس تلميذه ، وأبي مسلم الخراساني، وغيرهم" .
وتسرَّبت معتقدات البراهمية كذلك إلى بعض فرق الشيعة، خاصَّة ما يتعلَّق بالرجعة -وهو شبيه بالتناسخ عند الهندوسيَّة- فهي عودة الرُّوح لحياة جديدة، ولكنها في الرجعة تعود إلى الجسم، أي أن الشخص نفسه جسمًا وروحًا يعود للحياة بعد الموت، وقد قال بعض الإماميَّة بعودة علي بن أبي طالب t، وقال أكثرهم بعودة الإمام الثاني عشر وسمَّوْه المهدي. وانحراف بعض عامَّة المسلمين الذين أدخلوا في عقائدهم بعض الاتجاهات الهندوسية تسبَّبَ في إخراجهم من الإسلام، مثل بعض اتجاهات الأحمديّة وغيرهم .
محنة المسلمين مع الهندوس :
إنَّ للمسلمين تاريخ ومكانة كبيرة في الهند منذ بزوغ فجر الإسلام؛ حيث انتقل التجَّار المسلمون من بلد إلى آخر ينشرون فيه تعاليم الإسلام بسلوكهم وأخلاقهم، ومن ثَمَّ تكوَّنت في الهند دولاً إسلاميَّة؛ مثل: الدولة الغزنوية، والغورية، وغيرهما، فنشأت حضارة إسلامية راقية عاش فيها المسلم بجوار الهندوسي في سلام إلى أن جاء الاحتلال الإنجليزي فغذَّى الصراع الطائفي بين المسلمين والهندوس.
ومن أشكال هذا الصراع ادِّعاء الهندوس أن مسجد بابري في مدينة أيوديا -والذي بُنِيَ عام 1528م- قد بُنِيَ في المكان الذي وُلِدَ فيه (رام شاندر) أحد آلهة الهنود، وعالج المستعمر البريطاني آنذاك صدام طائفتي المسلمين والهندوس بأن سمح للهندوس بالصلاة في الساحة الخارجيَّة للمسجد، الأمر الذي يُذَكِّرنا بمطامع الصهاينة في ساحة المسجد الأقصى وحائطه الغربي الذي يسميه اليهود والمفرطون العرب -كذبًا وبهتانًا- باسم حائط المبكى.
وفي عام 1984م شكَّل الهندوس لجنة من غلاة المتطرِّفين لتحرير مسقط رأس الإله المزعوم رام، وأشرفت اللجنة على وضع حجر أساس معبد رام في الأرض المجاورة لمسجد بابري عام 1989م، وأقدم الهندوس المتعصبون عام 1992م بزعامة منظمة VHP المتطرِّفة على تدمير المسجد بصورة كاملة، ممَّا أدَّى إلى اشتعال الصدام الطائفي في ولاية أوتار براديش بكاملها، وسقوط ألفين من المسلمين والهندوس صرعى التعصب الهندوسي المقيت، وفي يناير 1993م امتدَّت الاضطرابات إلى بومباي، وقد فرضت الحكومة الهنديَّة سيطرتها على أرض المسجد، وتركت للمحكمة العليا الهنديَّة البتَّ في تحديد إلى من تَئُول ملكيَّتها، وقرارها صدر في 19 مارس، مؤكِّدًا ملكيتها للمسلمين بعد أنْ تأخَّر عشر سنوات كاملة، تُثْبِتُ قصور التشريعات الحالية عن مواجهة الخلافات الطائفيَّة بالسرعة والحسم المنشودين.
ومع انتشار الفاقة إلى حدِّ أن 42% من الهنود يعيشون تحت خطِّ الفقر، ومع ارتفاع ديون الهند الخارجيَّة إلى أكثر من مائة مليار دولار، واستمرار 67% من قوَّة العمل في مجال الزراعة - تبدو سهولة استقطاب الجماعات الهندوسيَّة المتطرِّفة للأنصار، الذين يثيرون الفتن من آنٍ إلى آخر مستغلين الحالة الاقتصادية المزرية التي يُوجد عليها المسلمون خاصَّة والهنود عمومًا.
وبعد أحداث واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر سنة 2001م بدأ غلاة الهندوس إشعال العداء ضدّ الإسلام كدين، والمسلمين الهنود كمواطنين في بعض ولايات الهند، واعتبر المتطرفون الهندوس أنَّ عليهم الانتصارَ لثقافة وقيم الهندوس، كما يفعل الأمريكيون في أفغانستان دفاعًا عن حضارة الغرب وتقدُّمه، ودعا بعضهم الولايات المتحدة لنصرة الهند في جامو وكشمير، والقضاء على المقاومة الوطنيَّة التي تدعو إلى استقلال كشمير أو إلى انضمام أغلب أراضيها إلى باكستان، وبدأت حكومة دلهي بالفعل إعادة النظر في تدريس المناهج الدينيَّة في المدارس والمعاهد الإسلاميَّة في الهند؛ لتَبْتَعِدَ عمَّا يرتبط بالعنف والإرهاب كما يزعم الأمريكان!!
كما قدَّمت الهند دعمًا كبيرًا لقوَّات تحالُفِ المعارضة الشمالي في أفغانستان بالسلاح والمال والاحتياجات الإداريَّة، بشكل أسهم بصورة مؤثِّرة في إسقاط نظام طالبان في كابول في وقت وجيز، ولا تزال حكومة دلهي تطالِبُ الولايات المتحدة بالضغط على إسلام أباد لوقف تسلُّل المجاهدين عبر الحدود الهنديَّة الباكستانيَّة التي يحتشد على جانبيها حاليًا نحو مليون جندي من قوَّات الدولتين !! هذا، ولا يزال الاضطهاد الديني من قِبَلِ الهندوس تجاه المسلمين مستمرًّا إلى وقتنا الحالي، وعلى الرغم من اقتراب تعداد المسلمين في الهند من 141 مليون نسمة، لكنهم ما زالوا أقلِّيَّة داخل الهند، التي يزيد تعداد سكانها على المليار نسمة بقليل، وتنادي هذه الأقلية في كثير من الأحيان بالمساعدة من الدول الإسلاميَّة التي تربطها بالهند عَلاقات اقتصاديَّة وسياسيَّة قويَّة، وكذلك المناداة بتدخُّل منظمة المؤتمر الإسلامي التي من شأنها حماية الأقليات المسلمة في البُلدان المختلفة.
المصدر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب