الاعتزال لغة واصطلاحا
الاعتزال معناه لغة: الانفصال والتنحي، واعتزلت القوم أي فارقتهم وتنحيت عنهم، والمعتزلة هم المنفصلون . هذا في اللغة. أما في الاصطلاح فهي فرقة عقلانية كلامية فلسفية، تتكون من طوائف من أهل الكلام، الذين خلطوا بين الشرعيات والفلسفة والعقليات
في كثير من مسائل العقيدة، وقد خرجت المعتزلة عن السنة والجماعة في مصادر التلقي ومناهج الاستدلال ومنهج تقرير العقيدة وفي أصول الاعتقاد . ويسمون أصحاب العدل والتوحيد، ويلقبون بالقدرية والعدلية، وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركًا، وقالوا: لفظ القدرية يُطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى؛ احترازًا من وصمة اللقب إذ كان الذم به متفقًا عليه لقول النبي : "الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ" .
النشأة وجذور الاعتزال
الواقع أن نشأة الاعتزال كانت ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية، وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية؛ فقبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء كان هناك جدل ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي، على أن هناك رواية ترجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية؛ فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي . وقيل أيضًا: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية قد أدت إلى تشكيكه في دينه، وابتداعه لنفي الصفات, كما أن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تُعدُّ موردًا من موارد الفكر الاعتزالي؛ إذ إنه كان يقول بالأصلح، ونفي الصفات الأزلية وحرية الإرادة الإنسانية .
وقد برزت المعتزلة بعد ذلك كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الذي كان تلميذًا للحسن البصري، وذلك عندما دخل رجل على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفِّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم
وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركنًا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا؟ فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقًا ولا كافر مطلقًا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب على جماعة من أصحاب الحسن،
فقال الحسن: اعتزل عنا واصل؛ فسمي هو وأصحابه معتزلة . ولأجل هذا سمَّاهم المسلمون معتزلة لاعتزالهم قول الأمة بأسرها .وكان سبب سؤال السائل ذلك للحسن البصري أنه لم يكن في زمن النبي خوض في هذه المسائل ولا في صدر الإسلام، وإنما حدث ذلك في أواخر عصر متأخِّري الصحابة وأول حدوثه في مسألة القَدَرِ وفي الاستطاعة من معبد الجُهنَيّ وغيلان الدمشقي والجَعد بن درهم،
وتبرّأ منهم متأخَرو الصحابة عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأبو هريرة، وتواصَوا وأوصَوا أخلافهم أن لا يسلموا عليهم، ولا يصلّوا على جنائزهم، ولا يعودوا مَرضاهم، وإنما حملهم على ذلك ما صحّ عن رسول الله من ذّم القدرية . وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون: إن صاحب الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن؛ لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزلة من الله تعالى، ولمعرفته بأن ما جاء من عند الله حق، ولكنه فاسق بكبيرته، وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام، وعلى هذا القول مضى سلف الأمة من الصحابة وأعلام التابعين .
مؤسس الاعتزال وأبرز المنظرين :
مؤسس هذه الفرقة هو واصل بن عطاء البصري (80- 131هـ/ 699- 749م) الغزّال المتكلم البليغ المتشدق الذي كان يلثغ بالراء، فلبلاغته هجر الراء وتجنبها في خطابه، سمع من الحسن البصري وغيره، قال أبو الفتح الأزدي: رجل سوء كافر.قلت : كان من أجلاد المعتزلة، ولد سنة ثمانين بالمدينة. ومما قيل فيه: ويجعل البر قمحًا في تصرفـه وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطرًا في القول يعجله *** فعاذ بالغيث إشفاقًا من المطـر
وله من التصانيف: كتاب أصناف المرجئة، وكتاب التوبة، وكتاب معاني القرآن، وكان يتوقف في عدالة أهل الجمل ويقول: إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها، فلو شهد عندي عليٌّ وعائشة وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم . مات سنة إحدى وثلاثين ومائة .
ومن أبرز منظري المعتزلة أيضًا:
أبو الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف (135- 226هـ/ 753- 841م) شيخ المعتزلة، ومقدم الطائفة، ومقرر الطريقة، والمناظر عليها، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء[17]، وتُنسب إليه فرقة الهذيلية. وأيضًا إبراهيم بن يسار بن هانئ النظَّام (ت 231هـ/ 846م) وقد طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة ، وتُنسب إليه فرقة النظاميّة. ومنهم أيضًا معمر بن عباد السلمي (ت 220هـ/ 835م) وهو من أعظم القدريّة فِرْيةً في تدقيق القول بنفي الصفات، ونفي القدر خيره وشره عن الله تعالى، والتكفير والتضليل على ذلك ، وتُنسب إليه فرقة المعمرية. ومنهم عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار (ت 226هـ/ 841م)، وكان يقال له: راهب المعتزلة ، وقد عُرف عنه التوسُّع في التكفير حتى كفّر الأمة بأسرها بما فيها المعتزلة، وتُنسب إليه فرقة المردارية. وأيضًا ثمامة بن أشرس النميري (ت 213هـ/ 828م) كان جامعًا بين قلة الدين وخلاعة النفس، مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة، وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين. وكان زعيم القدرية في زمان المأمون والمعتصم والواثق، وقيل إنه الذي أغرى المأمون ودعاه إلى الاعتزال، وتُسمَّى فرقته الثماميّة .
ومن أبرز منظري المعتزلة أيضًا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 256هـ/ 870م) وهو من كبار كُتَّاب المعتزلة، ومن المطلعين على كتب الفلاسفة، ونظرًا لبلاغته في الكتابة الأدبية استطاع أن يدسّ أفكاره المعتزلية في كتاباته كما يدس السم في الدسم، مثل البيان والتبيين، وتُسمى فرقته الجاحظية. وكذلك أبو الحسين بن أبي عمر الخياط (ت 300هـ/ 913م) من معتزلة بغداد، وبدعته التي تفرد بها قوله بأن المعدوم جسم، والشيء المعدوم قبل وجوده جسم، وهو تصريح بقدم العالم، وهو بهذا يخالف جميع المعتزلة، وتسمى فرقته الخياطية .ومنهم أيضًا القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني (ت 414هـ/ 1023م) فهو من متأخري المعتزلة، قاضي قضاة الرَّيّ وأعمالها، وأعظم شيوخ المعتزلة في عصره، وقد أرّخ للمعتزلة وقنن مبادئهم وأصولهم الفكرية والعقدية. هؤلاء هم أشهر منظري المعتزلة.
المبادئ العامة للمعتزلة
جاءت المعتزلة في بدايتها بفكرتين مبتدعتين:
الأولى: القول بأن الإنسان مختار بشكل مطلق في كل ما يفعل، فهو يخلق أفعاله بنفسه، ولذلك كان التكليف. ومن أبرز من قال ذلك غيلان الدمشقي، الذي أخذ يدعو بمقولته هذه في عهد عمر بن عبد العزيز حتى عهد هشام بن عبد الملك حيث كانت نهايته. الثانية: القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا ولا كافرًا، ولكنه فاسق، فهو بمنزلة بين المنزلتين، هذا حاله في الدنيا. أما في الآخرة فهو لا يدخل الجنة؛ لأنه لم يعمل بعمل أهل الجنة، بل هو خالد مخلد في النار، ولا مانع عندهم من تسميته مسلمًا باعتباره يظهر الإسلام، وينطق بالشهادتين، ولكنه لا يُسمى مؤمنًا .يقول الشهرستاني: الذي يعمُّ طائفة المعتزلة من الاعتقاد القول بأن الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف ذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعانٍ قائمة به؛ لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الإلهية. واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل، وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه، فإن ما وجد في المحل عرض قد فني في الحال.
واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته، لكن اختلفوا في وجوه وجودها ومحامل معانيها. واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار، ونفي التشبيه عنه من كل وجه: جهة ومكانًا، وصورة وجسمًا، وتحيزًا وانتقالاً، وزوالاً وتغيرًا وتأثرًا. وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها، وسموا هذا النمط (توحيدًا). واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق على ما يفعله ثوابًا وعقابًا في الدار الآخرة، والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية؛ لأنه لو خلق الظلم كان ظالمًا كما لو خلق العدل كان عادلاً.
واتفقوا على أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب -من حيث الحكمة- رعاية مصالح العباد، وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه عندهم خلاف وسموا هذا النمط (عدلاً).
واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض. والتفضل معنى آخر وراء الثواب. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار، وسموا هذا النمط (وعدًا ووعيدًا). واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجبة قبل ورود السمع، والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك. وورود التكاليف ألطاف للباري تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام امتحانًا واختبارًا؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]. واختلفوا في الإمامة والقول فيها نصًّا واختيارًا .
ونستطيع القول إذن أن المعتزلة يجمعهم -غالبًا- ما يُسمَّى بالأصول الخمسة، وهي:
1- المنزلة بين المنزلتين، وهو قولهم بأن الفاسق الملّي (مرتكب الكبيرة) لا مؤمن ولا كافر، بل في منزلة بينهما.
2- التوحيد، ويقصدون به نفي صفات الله تعالى.
3- العدل، ويقصدون به نفي القدر.
4- الوعد والوعيد، أو (إنفاذ الوعيد)، وهو زعمهم أن مرتكب الكبيرة مخلَّد في النار إذا مات على كبيرته.
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون به الخروج على ولاة الأمور، وإلزام الناس بمقالاتهم وعقائدهم. فمن قال بهذه الأمور أو أكثرها فهو معتزلي .
تطور المعتزلة وانقسامها
من خصائص الفكرة المبتدعة -ومثلها في ذلك مثل كل الأفكار البشرية الاعتقادية- أنها عادة تبدأ بسيطة ساذجة في اللفظ والمعنى، ثم لا تلبث أن تتعقد وتتفرع، بل تتغير وتتبدل، ثم تتناقض وتتضارب، وإذا كثير من مبادئها الأوليّة قد تغيرت بشكل تام، وهي في كل ذلك تسير من سيئ إلى أسوأ، وتزداد انحرافًا وبعدًا عن السُّنَّة، وما ذلك إلا لاعتمادها على العقل فيما لا يدركه العقل؛ لذلك قد قيل: إن صاحب البدعة لا تقبل له توبة، فهو ينتقل من حال إلى حال أسوأ كلما أوغل في بدعته. أما من تمسك بالنصوص الثابتة الجلية، والقواعد الصحيحة البينة فلا مجال لانحرافه؛ إذ إن الأمر دائر بين ثبوت النص وقواعد الفقه فيه، وهما أمران واضحان عند أهل السنة والجماعة حسب منهجهم. وقد ظهر ذلك الأمر جليًّا في فكر المعتزلة وتطور مقالاتهم خلال ثلاثة قرون هي فترة حياة الاعتزال كفرقة مستقلة واضحة ].
فقد افترقت المعتزلة فيما بينها عشرين فرقة، كل فرقة منها تكفِّر سائرها، وهذه الفرق هي الواصلية، والعمرية، والهذيلية، والنظامية، والأسوارية، والمعمرية، والإسكافية، والجعفرية، والبشرية، والمردارية، والهشامية، والتمامية، والجاحظية، والحايطية، والحمارية، والخياطية، وأصحاب صالح قبة، والمويسية، والشحامية، والكعبية، والجبابية، والبهشمية المنسوبة إلى أبي هاشم بن الحبالى. فهذه ثنتان وعشرون فرقة، فرقتان منها من جملة مائة وأربعين من فرق الغلاة في الكفر، وهما الحايطية والحمارية، وعشرون منها قدرية محضة . ومن الواضح أن كل فرقة من هذه الفرق قد تسمت باسم مؤسسها، فالواصلية نسبة إلى واصل بن عطاء، والهذلية نسبة إلى أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف، وهكذا، وقد اتفقوا في الأصول أو المبادئ الخمسة التي سبق ذكرها، واختلفوا في غيرها.
المراحل التي مرت بها فرقة المعتزلة
ظهرت المعتزلة كفرقة فكرية في أوائل القرن الثاني الهجري، إلا أنها -مع ذلك- كان لها نشاط سياسي ودور كبير على مسح الأحداث خاصة في بعض فترات العصر العباسي وإبّان الدولة البويهية الشيعية. ويمكن تقسيم المراحل السياسية للمعتزلة على هذا النحو:
المرحلة الأولى: تكوُّن الفرقة ونشأتها في العصر الأموي.
المرحلة الثانية: المعتزلة في العصر العباسي.
المرحلة الثالثة: في عصر المتوكل (عصر الضعف).
المرحلة الرابعة: في عصر البويهيين (عصر النشاط الثاني).
المرحلة الخامسة: انحلال المعتزلة كفرقة وذوبانها في الفرق الأخرى .
سبق أن ذكرنا أن بدايات نشأة المعتزلة كانت حين اعتزل واصل بن عطاء حلقة شيخه الحسن البصري، كان ذلك في عهد الدولة الأموية، والتي كان لشيوخ الفكر الاعتزالي الأوائل من القدرية والجهمية دور كبير في كثير من الحركات التي خرجت عليها، فلقوا جزاءً شديدًا نتيجة الموقف المعادي للدولة الأموية، فقد خرج معبد الجهني -وهو أول من قال بالقدر- على عبد الملك بن مروان مع عبد الرحمن بن الأشعث في حركته التي كادت تقضي على حكم الأمويين، وقد قتله الحجاج بن يوسف الثقفي بعد فشل الحركة عام 80هـ.
وكذلك خرج الجهم بن صفوان -الذي قال بنفي الصفات وخلق القرآن- مع الحارث بن سريج على بني أمية، فقتله سالم بن أحوز في مرو عام 128هـ بعد فشل الحركة. أما غيلان الدمشقي فقد جرت بينه وبين عمر بن عبد العزيز مناقشات بشأن القدر، فأمسك غيلان عن الكلام فيه حتى مات عمر بن عبد العزيز، ثم أكمل بدعته حتى قتله هشام بن عبد الملك. وأما الجعد بن درهم فقد قتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة بعد استفحال أمره .ثم تأتي مرحلة قوة المعتزلة حيث الخلافة العباسية، فقد برز المعتزلة في عهد المأمون حيث اعتنق الاعتزال عن طريق بشر المريسي، وثمامة بن أشرس، وأحمد بن أبي دؤاد، وهو أحد رءوس بدعة الاعتزال في عصره، ورأس فتنة خلق القرآن، وكان قاضيًا للقضاة في عهد المعتصم، وفي فتنة خلق القرآن امتُحن الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الرضوخ لأوامر المأمون والإقرار بهذه البدعة، فسُجن وعُذِّب وضُرب بالسياط في عهد المعتصم بعد وفاة المأمون، وبقي في السجن مدة عامين ونصف ثم أعيد إلى منزله وبقي فيه طيلة خلافة المعتصم ثم ابنه الواثق .
ولما تولى المتوكل الخلافة عام 232هـ أظهر الانتصار للسُّنَّة، فأمر بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكفِّ عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلّم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت، وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، وأمر بإكرام الإمام أحمد إكرامًا عظيمًا، وقتل محمد بن عبد الملك بن الزيات الذي سعى في قتل أحمد بن نصر وكان سببًا في محنة الإمام أحمد، وأمر بدفن جثمان أحمد بن نصر الذي كان ما زال معلقًا مصلوبًا منذ قتله الواثق. وهكذا انتهت تلك السنوات التي استطال فيها المعتزلة وسيطروا على السلطة وحاولوا فرض عقائدهم بالقوة والإرهاب خلال أربعة عشر عامًا كاملة .
وفي عهد دولة بني بويه عام 334هـ في بلاد فارس -وكانت دولة شيعية- توطدت العلاقة بين الشيعة والمعتزلة وارتفع شأن الاعتزال أكثر في ظل هذه الدولة، فعيِّن القاضي عبد الجبار رأس المعتزلة في عصره قاضيًا لقضاء الري عام 360هـ بأمر من الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي، وهو من الروافض المعتزلة، يقول فيه الذهبي: "وكان شيعيًّا معتزليًّا مبتدعًا" . ويقول المقريزي: "إن مذهب الاعتزال فشا تحت ظل الدولة البويهية في العراق وخراسان وما وراء النهر". وممن برز في هذا العهد: الشريف المرتضى الذي قال عنه الذهبي: "وكان من الأذكياء والأولياء المتبحرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر لكنه إمامي جلد" . وبعد ذلك كاد ينتهي الاعتزال كفكر مستقل إلا ما تبنته منه بعض الفرق كالشيعة وغيرهم .
ثم تأتي مرحلة انحلال وذوبان المعتزلة في التشيع، وقد بدأت تلك المرحلة منذ بدأ التزاوج بين الرفض والاعتزال، ومن الواضح أن الرافضة قد تأثروا بمناهج الفكر الاعتزالي بشكل قوي، فنقلوه وهضموه خاصة في مسائل الصفات والقدر، كذلك في محاولتهم الإيهام
بتعظيم دور العقل، مع أن أصل مذهبهم يقوم على أمور غير معقولة -كالإمام الغائب الذي ينتظرون رجعته كل ليلة- وكذلك تبني المعتزلة تدريجيًّا فكر الشيعة المنحرف؛ ليضمنوا القوة والاستمرار في ظل دول الرافضة، فذاب الاعتزال في التشيع، وانتهت المعتزلة كفرقة مستقلة منذ ذلك الحين .
الفكر الاعتزالي في العصر الحديث :
انتهت المعتزلة كفرقة -كما ذكرنا- لكن بعض أفكارها بدأت بالظهور مرة أخرى في العصر الحديث في آراء بعض المفكرين في عدة قضايا. ويمكن للباحث من خلال كتابات عديد من الكتاب في بضع العقود الماضية أن يتلمس آثار مدرسة فكرية مميزة ينتمي إليها فكرهؤلاء الكتاب وآراؤهم، يُستدل عليها بوحدة الآراء، وتقارب المفاهيم، وتميُّز بتشابه الموضوعات، وتلاقي المقاصد والغايات . ونجد أن بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر يحاولون إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفا عليه الزمن أو كاد، فألبسوه ثوبًا جديدًا، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل: العقلانية، التنوير، التجديد، التحرر الفكري، التطور، المعاصرة، التيار الديني المستنير،
اليسار الإسلامي.
وقد قوّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وَفْق العقل الإنساني، فلجئوا إلى التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل، ثم أخذوا يتلمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات المادية، وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل إلا من هذا القبيل.
وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر.
وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسُّنة، مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد والحدود، وغير ذلك.. فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث... إلخ. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله، وتحكيم العقل في هذه المواضيع. ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر.
ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية، وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة والمرأة الجديدة، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه "أستاذ الجيل"، وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي"، وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا. هذا في البلاد العربية. أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي منح لقب (سير) من قبل الاستعمار البريطاني، وهو يرى أن القرآن الكريم -لا السنة
النبوية - هو أساس التشريع، وأحلّ الربا البسيط في المعاملات التجارية، ورفض عقوبة الرجم والحرابة، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين، وهذا الأخير قال به لإرضاء الإنجليز؛ لأنهم عانوا كثيرًا من جهاد المسلمين الهنود لهم. وجاء تلميذه "سيد أمير علي" الذي أحلّ زواج المسلمة بالكتابي، وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة. ومن هؤلاء أيضًا مفكرون علمانيون، لم يُعرف عنهم الالتزام بالإسلام، مثل زكي نجيب محمود صاحب (الوضعية المنطقية)، وهي من الفلسفة الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي.. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحيِّيه، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة .
المصدر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقاتكم موضع إهتمامنا دائما , شكرا لكم