تاريخ الحب هو ليس إلا تاريخ المرأة جارية ومحظية وعاشقة وحرمة وسيدة قصر وملكة وراهبة وأديبة ومفكرة ومثقفة وزوجة وبنتا وعشيقة، تاريخ تمردها وتضحياتها وصمودها تاريخ اضطهادها ووأدها وانتقامها وأن تكون المرأة هى رمز الحب فى التاريخ يعنى أن الحب هو محرك التاريخ هكذا يكشف لنا كتاب «تاريخ الحب» للكاتب والباحث الفرنسى سيناك مونكو، والذى يتناول تاريخ الحب فى العصور القديمة لدى الغاليين والمسيحيين والعرب والمسلمين والبرابرة ومن العصر الوسيط إلى القرن الثامن عشر.
يرى مونكو فى كتابه أن الأمم تنقسم فى كل العصور إلى قسمين كبيرين سياسيا وأخلاقيا، فنجد من جهة الشعوب الفاسدة المستسلمة للفساد والإسراف هذه الشعوب هى الشعوب المهزومة ونجد من جهة أخرى أن الشعوب القوية التى تؤسس مجدها على صفاء الحب وعلى الشجاعة وعلى الإخلاص والصبر هذه الشعوب هى التى تزدهر وتنتصر.
ويقول « من المؤكد أنه كلما كانت المرأة محبوبة ومحترمة باعتبارها رمزا للشرف ولكرامة الأسرة اكتسب الرجل الشجاعة والفخر والاستقلال الفكرى وبمثل هذا تتأسس الأمم العظيمة وكلما كانت المرأة بمثابة أداة زينة نتباهى بها ولعبة نبيعها ونشتريها وأداة للشهرة والنجاح كانت الدعارة سبيلا إلى الاستبداد وسيادة الغرائز المرتكسة وممهدة لبلادة المشاعر».
يحكى مونكو عن تضحية المرأة فى بلاد الغال قديما (أوروبا الآن) عندما تكون الغالية زوجة جندى أو قائد فهى ترى أثناء المعارك ر والحصار خلف المقاتلين تحرصهم على القتال حتى الموت أو النصر وإذا ما انكسرت صفوف الجيش الأمامية فإنها ترتمى عند أقدام الجنود محتضنة أطفالها وذلك لمنع فرارهم لقد كانت تستجير بأمومتها وحبها وتنعى عليهم تخاذلهم ثم سرعان ما تعود تبشرهم بالنصر وهى بذلك تدفع أكثر الجنود رعبا إلى معاودة الكر وإذا ما انتصر العدو رغم كل ذلك الجهد والحزم وإذا ما شعرت بخطر الاسترقاق فإنها تربو بنفسها عن تحمل ذلك العار فتسعى إلى الموت مع زوجها أو حبيبها المصروع فالموت وحده هو الذى يجمع بينهما وهكذا يقضى جنون الحب والوطنية بأن ترمى أطفالها تحت عجلات العربات وتطعن نفسها وتلقى بنفسها من أعالى الصخور حتى تنجو من شماتة الأعداء وتتحد إلى الأبد مع أولئك الذين كانوا أحبتها فى الدنيا.
يعلق مونكو على ذلك «يعد الحب لدى نساء الشعوب الحرة أمرا عظيما كما يكون الوفاء لديهن عميقا وبطوليا أحيانا فالمرأة تهب نفسها لزوجها وتشاركه معاركه الحربية وتواسيه عند الضراء وتتحمل معه أعباء الحياة وتعرف كيف تألم وتموت لأجله وكل فعل وفاء بينهما هو رباط حب جديد وعربون ود متجدد.
ومن اسكندنافيا يحكى المؤلف قصة ابنة الملك سيقور التى تدعى ألفيلدا «كانت ألفيلدا على قدر من الشجاعة والعفة وكانت تظهر دائما للعامة متشحة بحجاب وقد عهدت بحمايتها الشخصية إلى محاربين اثنين يتم اختيارهما من بين أشد محاربى المملكة ثم إن والدها الملك أشاع فيمن حوله أن البطل الذى يروم خطبة ابنته أن يصرع أولاً حارسيها الأثنين ولم يقبل التحدى سوى القرصان الشاب آلف وكان النجاح حليفه، وبعد إنجاز المهمة لم يبق له فيما زعم سوى أن يحضر إلى القصر لينال أرق المكافآت ولكن العذارء ذات الدرع اشترطت اختبارات إضافية فجمعت وصيفاتها وأعطتهن لباسا حربيا واتخذت لنفسها مثلهن وجهزت مراكب واندفعت نحو خليج فلندا على عادة القرصان لحق بها آلف وأدركها واندلعت بينهما معركة حربية فتصادمت مراكبهما وتشابكت صعد آلف على سطح سفينها فحاولت صده وتقاتلا وجها لوجه فعاجلها أحد أصحابه بفأس على رأسها فطارت خوذتها ووقعت على قفاها ولدى رؤيته وجهها الذى كان ممتقعا ومع ذلك لم تفارقها أنفتها توقف عن مقاتلتها حبا وإعجابا وأخيرا رضيت أن تكون زوجة أشد المحبين مثابرة».
إن مدينة مرسيليا الشهيرة أخذت اسمها من قصة حب أخاذة وشاعرية غاية فى النبل والصدق وتفصيل ذلك أنه سنة ستمائة قبل ميلاد المسيح ألقى قارب فوسيانى مراسيه قرب إقليم بوش دوى رون على أرض السيقوبريج فاستقبل الملك نان ملك أولئك الغرباء بكل لطافة الضيافة القديمة فأقيمت حفلة كبيرة فى قصره جمع فيها على مائدة الأكل عدداً كبيراً من الراغبين فى خطبة ابنته التى كان عليها أن تختار بنفسها عريساً من بينهم حث الملك نان الفوسيين على الجلوس إلى مائدة العائلة فسارعوا بالقبول لم تحضر الشابة المسماه جيبتيس أو بيتا الحفل فقد كانت العادات تحتم عليها ألا تظهر إلا فى آخر المأدبة مشهرة بيدها كأس الزواج لتهديه للرجل الذى اختارته زوجاً لها.
ولما استحال وجود امرأة بلا فضول وبلا حب اطلاع علينا أن نفترض أن بيتا قد اختلست النظر إلى المأدبة حتى تقرر فى النهاية اختيار الرجل الأجدر بحبها والأكثر وسامة من بين المدعوين ومن ثم الأجدر بأن يكون زوجها إن الطريقة التى انتهى بها الحفل تؤكد هذه الفرضية فعندما بانت «بيتا» لم تهد الكأس التى كانت تشهرها إلى شاب سيكوبريجى من أبناء جلدتها وإنما أهدته إلى زعيم الغرباء إلى أوكسان الفوسايانى الذى كان فى زيارة لتلك البلاد لأول مرة فى حياته ولم يلبث أن أثار ذلك الاختيار غير المنتظر أقاويل غليظة تهامس بها المرشحون السابقون ولكن الشابة الغالية تمسكت بحقها الذى تحميه الآلهة رغم أن القوانين تعاقب عليه.
احترم الأب قرار ابنته فما كان من المرشحين الخاسرين إلا أن امتثلوا له وهكذا تزوجت بيتا أو كسان فسماها ارستوكسان ومعناها فى الإغريقية «أكثر الضيفات رشاقة» ثم استقر بصورة نهائية فى أفضل ولايات والده وهكذا أسست مدينة ماسالى نزولاً عند رغبة شابة كانت متعجلة نوعاً ما فى اتخاذ قرارها.
أيضا من النماذج الرائعة التى يحكيها المؤلف حول ابنة فلاح فقير لكنها غاية فى الجمال يتزوجها أحد الحكام ولكنه يأبى أن يصارح شعبه بأنه متزوج من فلاحة فقيرة فتظل فى جدران قصره ينجب منها ابنة ويسلبها إياها فترضى ثم ينجب منها ابنا ويسلبه إياها وترضى فهى تحبه ولا ترفض له طلبا حتى وإن كانت روحها التى بين جنبيها وفى لحظة يطردها ويجردها من كل شئ ويأمر الحراس بإعادتها لبيت أبيها تقبل بالأمر وترضخ له وبعد سنوات يطلب منها العودة لكى تشرف على تجهيز عرش الزوجية الجديد حيث قرر أن يتزوج من فتاة من طبقة ثرية تفعل ما يأمرها به وهنا ترجوه ألا يفعل بالزوجة الجديدة مافعله بها يبكى متأثرا ونادما معترفا أنه لم يحب سواها وأن والديها فى رعاية أخوته.
لقد تجرأ أرسطو على إنكار حب الكسندار «الحسناء الهندية» فأقسمت أن تنتقم منه لتنكره لحبها نزلت إلى الحديقة فى زى شفاف وخفيف كان المناخ الحار قد سوغ لباسه شاهدها أرسطو وهى تقطف الزهور وسمعها تنشد أغانى غاية فى الاغراء، فتن بها واختلجت جميع حواسه، فاهتاج ونزل إلى الحديقة يبحث وينظر ثم أطلق زفرة، وبعد أن أنكر على ملكه جنونه حسده على نعيمه، اقتربت الهندية وسمعت تنهداته، وما باح به ولكنها لم توافق على الإصغاء إليه إلا بشرط أن ينحنى على قوائمه الأربع، لقد أضاع الفيلسوف فلسفته وانصاع، وهكذا سعد الحسناء بأن عرضت على الملك وأعوانه المشدودين إلى فرادة المشهد، الفيلسوف عدو المرأة ساعيا إلى اللذة الحسية وقد مسخ دابة وحتم المثل الفلسفى بالقول: حقا إن الحب يولد سريعا وينتصر سريعا على مدى الوجود».
ويكشف مونكو عن أن الحب فن أكثر منه فلسفة، بحثه قليل وتحليله محدود، إنه نظرة فإعجاب فهيام، ويقول «على الرغم من أن الحب طرد ولوحق من جهات عدة فهو لم يمت بل بالعكس عظمت قاعدته ونمت، إنه النار المقدسة التى عليها أن تنير خطى الحضارة».
ويرى مونكو فى كتابه الضخم الذى ترجمه محمد الرحمونى وصدر عن مشروع كلمة أحد مشروعات هيئة الثقافة والتراث بأبو ظبي، «أن الحب توق وخلق وتوازن فى حين الفظاعة نفور وتهديم وظلمات، فأنى للشرير أن يفقه معنى الحب، وهو المشدود إلى الفظاعة».