الملك الشاب فيصل الثاني |
في يوم الأحد المصادف الثالث عشر من تموز 1958 كان الملك فيصل الثاني متواجداً في القصر الملكي مجتمعاً مع عائلته وبعض الزوار وقد احيّوا حفلا عائليا صغيرا بمناسبة عيد ميلاد الملك، تخللته فقرات ترفيهية من أحد السحرة البهلوانيين الذي استقدمه الأمير عبد الاله..
وكان مدعوا للحفل عدد من المقربين بضمنهم قائد الفرقة الثالثة الفريق غازي الداغستاني والتي انطلقت منها الحركة دون علمه.
وبعد الحفل كان الملك يتداول موضوع زواجه المرتقب وهّم بعض إفراد الأسرة بوضع الترتيبات الخاصة بسفر الملك إلى تركيا ثم إلى بريطانيا، حيث من المقرر إن يلتقي خطيبته وفي لندن.
كان الملك الشاب الذي يبلغ من العمر 23 سنة ً يعاني من الربو، هادئ في طبعه مثقف خجول إلى حد ما وكانت له نزعة وطنية مبنية على حبه للعراق، كان يقتدي بسيرة والده الملك غازي المعروف بمناصبته العداء لبريطانيا والذي قتل هو الآخر في حادث اصطدام سيارة غامض عام 1939. وكان يؤثر عليه وعلى قراراته بشكل خطير خاله الوصي السابق على العرش.
وكان من المقرر أن يلتقي الملك فيصل الثاني بخطيبته الأميرة فاضلة في لندن حيث تقرر زواجهما خلال شهرين، وكان مقررا أن يرافقه في سفره رئيس وزرائه نوري السعيد وبعض الوزراء بضمنهم غازي الداغستاني قائد الفرقة الثالثة الذي قام أحد الألوية التابعة له بالقيام بالحركة. ومن العائلة كان سيرافقه بعض أميرات الأسرة وأزواجهن. كان الملك طوال الأمسية منتشياً بسبب التطورات الجميلة على المستوى العائلي بالزواج وعن القصر الذي يشرف على تشييده في كرادة مريم، والذي صادرته الدولة بعد إعلان الجمهورية، حيث تم توسيعه وإكماله وافتتاحه عام 1965 ليكون القصر الجمهوري كمقر رسمي ومكتب رئيس الجمهورية، والذي تم احتلاله من قبل القوات الأميركية عام 2003 والتي حولته إلى السفارة الأميركية.
كان الملك قد خطط الانتقال للقصر الجديد ليكون مقره وسكنه بعد زواجه وهي خطوة منه لفصل نفسه وقراراته وسياسته عن الوصي السابق عبد الاله، ليبدأ بسياسة جديدة نابعة من فهمه ومبادئه. ومن المفارقات كانت خالة الأميرة هيام تبدي ملاحظاتها المتكررة للملك بأن يذكر عبارة " إن شاء الله "، حيث علق مازحا، "نعم إن شاء الله، ولكن لماذا هذا الإلحاح وكأننا سنموت غدا؟ "
وقبل ظهر ذلك اليوم استقبل الملك بعض زائريه في مكتبه وتناول طعام الغداء مع أغلب إفراد أسرته، ودخل جناحه الخاص للإشراف على إعداد حقائب السفر.
ورغم الأجواء المرحة للمناسبة السعيدة والذي ساد اجتماع أفراد الأسرة وهم يتناولون الشاي فان شيئا من القلق والتوجس كان يسيطر على مشاعر بعض الأميرات وبخاصة الأميرتان عابدية وبديعة. وقبل الغروب بحوالي الساعة وصلت سيارة شاهدها أفراد العائلة وهم جالسون في شرفات القصر، توقفت وترجل منها ضابط يحمل رسالة سلمها للملك، تطلع إليها الملك مليا وقد اكتسى وجهه بالوجوم طالباً الاتصال بطيار الملك الخاص المقدم جسام لجلب الطائرة المروحية في باحة القصر. وناولها إلى الأمير عبدالاله الذي لم يقدر على إخفاء ارتباكه حال الاطلاع عليها, موجها الملك بأنه لا داعي للطائرة للهرب وانه سيتصرف لمعاقبة القطعات المتمردة لأنه عرف من أين انطلقت ويشتبه ببعض عناصرها، ثم استأذن الحاضرين وخرج من القصر.
كانت الرسالة من مدير الأمن العام تتضمن معلومات مقتضبة تفيد بوجود تحركات مريبة من قبل الجيش، دون إيراد تفاصيل، وكان خروج عبدالاله من القصر لكي يستدعي مدير الأمن العام ليبحث معه مصادر المعلومات وماهية هذه التحركات. لكن الوقت كان مثل السيف، ولم يتح فرصة كافية لاحتواء الموقف،
وحينما عاد عبدالاله إلى القصر تاركا التحقيق في الأمر إلى اليوم التالي، كان تحرك اللواء العشرين بقيادة عبد السلام عارف على طريق جلولاء - بغداد قد بدأ، وأصبح حكم القدر قاب قوسين عن قصر الرحاب، وكان الملك الشاب يحاول إخفاء هواجسه التي تنطوي عليها تساؤلات الأميرات عن سبب غياب الوصي ومحتوى الرسالة ..
وبعد العشاء عانق الملك خالاته وقريباته من الأميرات عناقا كان يبدو وكأنه الوداع الأخير أو العشاء الملكي الأخير، ثم توجه الملك إلى جناح نومه أملا للنهوض مبكرا استعدادا ليوم عمل شاق يتخلله التحضير للسفر، وما أن حان منتصف الليل حتى أطفئت أنوار قصر الرحاب بانتظار صباح جديد .